ويذهب البحتري في شعره مذهب الألفاظ لا المعاني، ولما كان قد نشأ ببادية منبج فقد أخذ منها خيالها الصافي، ولغتها الفصيحة وبلاغة أبنائها. فجاءت لفتة جميلة، مطبوعة، لا تكلف فيها ولا تنافر في ألفاظها. وجاءت صوره صوراً لا تعقيد فيها ولا غموض.
والبحتري إلى هذا صاحب مخيلة قوية، كان إذا صوّر الأشياء أبرز لها صوراً دقيقة الفن، ملونة، تحس فيها الحركة والحياة، في شعر حلو النغم، رائع الديباجة، كأنه كما قيل فيه "سلاسل الذهب"، وقد ضرب المثل بديباجته فقيل ديباجة بحترية، ولا بدع فقد كان دقيق الإحساس باللفظة. يعني باختيار الألفاظ الموسيقية التي تعبر بذاتها عن المعنى وتصوره تصويراً جلياً، وإذا قصرت اللفظة عن القيام بهذه المهمة التصويرية، فإن الشاعر كان، بفنه الجميل، يؤلف بين اللفظ والمعنى تركيب جملة، وحبكها منسجمة، موافقاً بعضها لبعض، وحسن صياغته هذا جعل ابن رشيق القيرواني يلقبه:" بشيخ الصناعة الشعرية".
وجعل الأقدمين يتخذون شعره مثالا أعلى للطريقة الشامية، أما فيه من توقيع ونغم، وهي طريقة قائمة على موسيقى الألفاظ وحسن صياغتها والعناية باختيار التعبير والصورة، فلا بدع إذا قيل فيه: "أراد البحتري أن يشعر فغنّى لأن شعره موسيقى وغناء". على أن البحتري في شعره اكتفى بالنغمة والصورة، فعلى تخرجه على أبي تمام واحتكاكه بابن الرومي ورؤيته مذهبه الشعري الجديد، بقي غريباً عن النهضة الفكرية والمدنية والفارسية وثقافتها التي تغلغلت في البنيات الأدبية العربية، لا يسير إلا على طرق الأقدمين، ولا يترسم إلا أساليبهم التقليدية. وهذا ما جعل الأمدي يقول : "البحتري إعرابي الشعر، مطبوع، وعلى مذهب الأوائل، ما فارق عمود الشعر المعروف".
بيد أنه إذا كانت الفكرة عنده قليلة الحظ، فإن ما كان له من لطف في الخيال، وذوق في الإخراج، ومقدرة في الصياغة، سنى له تحسين تلك الأساليب القديمة وتجميلها، وصقلها. ودخول البحتري إلي الحضر أفاده إلى جانب صوره البدوية، صوراً حضرية، فإن ما شاهده من العمران بطبيعته وقصوره وعماراته، وسّع خياله ولوّنه بألوان الحضارة المتنوعة، فإذا وصف مثلا بركة المتوكل أو قصر المعتز أو إيوان كسرى أو الربيع لم يكن يأتي بفكرة جديدة ولا بصورة مبتكرة، ولكنه كان يبرز الفكر والصورة المعروفة بقالبه الملوّن، الموسيقي، الخاص به، فتلتذ به الأسماع وترتكض لها القلوب. هذا وإن أكثر شعر البحتري في المدح، وأقله في الثناء والعتاب والهجاء والغزل، ويغلب عليه أن يستهل بالغزل ولكنه غزل تقليدي جامد لا تحس فيه نفسية الشاعر ولا عاطفته، اللهم إن لم يكن في بعض مقطوعات قالها في علوة الحلبية، وكان يعقب الغزل بالمدح، أو وصف مظاهر العمران أو الطبيعة، ذاك الوصف الجميل الذي لم يكن للوصف نفسه، وإنما كان وسيلة يتخذها الشاعر للمدح. والديوان بين يدي القارئ، عله يتذوق ذاك الشعر الرائع ويكون له رأي موافق أو مخالف لما جاء في هذه اللجة.
وتتميز هذا الطبعة في الديوان بأنها قد جاءت محققة ومذيلة بشروحات مختصرة لبعض الكلمات الغربية التي استعملها البحتري في الديوان وذلك لتقريب المضامين الشعرية من المهام والذواق. كما واعتنى بالتقديم للديوان بمقدمة عرفت بالشاعر وبيئته وبأسلوبه السوي وبأغراضه الشعرية.