إن أوّل ما يمكن عدّه غزوةً أو حملةً هي تلك التي قام بها الآشوريون على مشيخات شمال شبه الجزيرة العربية وشمال غربها، ولم تكن بهدف استغلال الموارد الطبيعية أو غيرها، بل لإيقاف هجمات البدو العرب على مواقع وأمكنة تابعة للإمبراطورية الآشورية وتأديبهم. وهذه الهجمات تضرّر منها أصحاب القوافل، فوجدتها الإمبراطورية دافعاً لإرسال قواتها إلى داخل الأراضي في شمال شبه الجزيرة العربية. وب سبب هذه الهجمات الآشورية تعرّف العراقيون
هذه المنطقة؛ لذلك لم يتردّد نابونيد - آخر ملوك الدولة البابلية الكلدانية- فياجتياحها، ليس بهدف تأديب قبائلها، بل للاستقرار فيها؛ لتزايد الخطر الفارسي على بابل. وقد وجد نابونيد أن عليه - إن رَغِبَ النجاة بملكه- الابتعاد من الخطر المحدق ببلاده من التهديدات الفارسية )الإخمينية(؛ لذلك توجّه إلى شمال شبه الجزيرة العربية وشمال غربها باتجاه مدينة تيماء، التي من المؤكّد أنه لم يخْ هَرتْا إلا لعلمه بإمكانياتها ومناسبتها لتصبح عاصمةً مرموقةً لحكمه، وإلا لما خاطر ودخل المنطقة. وقد يسأل سائل: لماذا لم يختر نابونيد منطقةً تقع إلى الغرب من بلاده في الشام؟ ولعل الإجابة -في تصوّرنا- تعود إلى أن نابونيد نفسه تيقّن أن دولته لا تستطيع مواجهة هذه الإمبراطورية الإخمينية الجديدة؛ خشية أن تكون مملكته لقمةً سائغةً لها، وأن هذه الإمبراطورية الناشئة ستسير على الطريق ذاته الذي سار عليه أباطرة أكاد وآشور وبابل بالسيطرة والهيمنة على بلاد الشام منجم الثروات الطبيعية؛ لذلك فإن الإخمينيين لن يسمحوا باستمرار دولته فيها. وهكذا، وقع اختياره على هذه المدينة الحالمة )تيماء(، ليس لأنها الأفضل، لكن لأنه توقّع بحساباته أن الإخمينيين لن يتعرّضوا له وهو فيها؛ فمملكته الجديدة منزوية داخل الصحراء الشمالية. والمعلوم أن نابونيد عاش فيها سبع سنوات، وقيل: عشراً،
ينتظر خلالها دخول الفرس عاصمة بلاده بابل، لكن الفرس لم يجتاحوها إلا بعد عودته إلى العاصمة بابل، وقضوا نهائياً على الإمبراطورية الكلدانية.
والأمة الثالثة هي )الإغريق(، التي حاولت مصارعة المارد الصحراوي المُحاط بالبحار من ثلاث جهات، وتشكّل المعصم الحامي لليد؛ فالبحار الثلاث تدفع بعيداً
منها كلّ شرٍّ. لقد سعى الإغريق من خلال إمبراطورهم العظيم الإسكندر إلى جسّ نبض هذا المارد، ومعرفة مكامن ضعفه؛ فقوّته معروفة لهم، وهي تكمن في شيئين، هما: الغموض الذي يلفّ شبه الجزيرة العربية، و أنها المخزن البشري للعالم القديم. وكانت محاولاتهم هذه على مرحلتين: الأولى في نهاية القرن الرابع
قبل الميلاد على الأطراف الشمالية، والثانية جاءت في منتصف القرن الثالث قبل الميلاد، وتحديداً على الأطراف الشمالية الشرقية.
لكنني أميل إلى أن سبب تعرّض شبه الجزيرة العربية لعدد محدود من الحملات يعود إلى موقعها، الذي يترك هيبةً أمام الراغبين في الوصول إليها عنوةً؛ فهي غامضة موحشة بصحرائها وجبالها، عظيمة برجالها وأهلها، فما من قبيلة أو قبائل خرجت منها إلا وسادت في الأرض التي تستقرّ بها منذ خروج الأكاديين ومن
تبعهم من الآشوريين والبابليين وغيرهم، وانتهاءً بالقبائل العربية التي هاجرت معظهور الإسلام، أو تلك التي جاءت بعد تدهور أوضاع الخلافة العثمانية؛ فالجميع من خلال التجربة يعلم مقدرة ه ؤلاء، لا على التكيّف مع المجتمعات الأصلية فقط، بل على فر ض أجندتهم ووجودهم؛ لذلك فضلت هذه الأمم ترك شبه الجزيرة العربية في حالها.
لكن الأمر اختلف لاحقاً؛ لعاملين:
أوّلهما: تزايد استهلاك المواد العطرية في العالم القديم، وهي مواد تنتجها عدة مناطق في جنوبها.
ثانيهما: تفاعل أهلها مع مميّزات موقعهم الإستراتيجي بوصفه طريقاً تجارياً مهماً.
عندها وجدت القوى طريقها إلى المنطقة، بدءاً من هذه الحملة الرومانية، مروراً بالاحتلال الفارسي والحب شي، وانتهاءً بالاستعمار الغربي لجهتيها الشرقية والجنوبية، إ ضافةً إلى الجزء الأقصى منشمالها. ويهمّنا في هذه الدراسة الحديث عن الحملة الرومانية الأولى، التي كانت
عن طريق البر، والتيس أتناول أسبابها ونتائجها؛ إذ بعد اطّلاعي على عدد من الدراسات المتعددة للحملة وجدتُ -خصوصاً في تلك العربية منها- تكراراً في التناول؛ اعتماداً على ترديد آراء الباحثين الغربيين ودراساتهم عن الحملة؛ مثل: تحديد مسارها، والمواقع التي مرّت بها، مع أنها افتراضات استندت إلى أسماء أمكنة غير دقيقة، أو تصدّي الباحثين العرب لأقوال استرابون عن الوزير النبطي
سلي، أو عن الأحداث والمواجهات العسكرية التي حدثت بين الجيشين العربي والروماني. لذلك قادني عدم اقتناعي بذلك الدفاع المستميت، ومسوّغاته غير العلمية، إلى أن أعطي نفسي حقّ المشاركة في هذا الموضوع بهذه الدراسة المتواضعة عن الحملة. وقد بدأتُها بالحديث باخت صار شديد عن المؤثِّرَيْن الرئيسين، وهما:
الرومان، والأنباط، كما تناولتُ المصادر الكلاسيكية المعاصرة أو التالية للحملة، وانتقلتُ بعدها إلى الحديث عن الحملة، متطرّقاً إلى أسبابها، وختمتها بنتائجها.
ولا يفوتني في هذه العجالة أن أكرّر عميق شكري وجزيل تقديري لجميع الإخوة والأخوات على تشريفهم لي بقراءة مسوّدات هذا العمل، وإبداء ملاحظاتهم وتصويباتهم التي أقدّرها كثيراً، وأخص منهم الإخوة الفضلاء: فؤاد بن حسن العامر، وسلطان بن عبدالعزيز الدهام، ومحمد بن علي الحاج من قسم الآثار بجامعة الملك سعود، والدكاترة: رضا أرسلان، ونورة بنت عبدالله النعيم، وفتحية بنت حسين عقاب، ووداد الشنار من قسم التاريخ بجامعة الملك سعود، وحصة بنت تركي الهذال من قسم التاريخ بجامعة الأميرة نورة، والأخ المؤرّخ عبدالله بن عبدالرحمن الذييب، والشكر موصول إلى الأخ الأستاذ الدكتور عبدالعزيز بن سعود الغزي الذي قدّم لي مسوّدة ترجمة مقال سبرنجر عن الحملة؛ فلهم جميعاً الشكر والتقدير. وأخيراً، أسأله تعالى أن يجعل هذا العمل المتواضع في ميزان
حسناتي، وأن يجعله مفيداً للقارئ الراغب في معرفة تاريخ شبه الجزيرة العربية؛ إنه سميع مجيب الدعاء.