الأنثروبولوجي إريك ولف (1923- 1999م).
في الوقت الذي لا تتوقف فيه الأشكال الحضرية عن الظهور والتغير والتحول، مثل المعسكرات والأحياء الفقيرة الواقعة على حدود المدن الكبرى، أو مخيمات اللاجئين التي تديرها المنظمات الدولية، يقترح ميشال أجيي في كتابه «أنثروبولوجيا المدينة Anthropologie de la ville» التفكير في ما «يشكل المدينة»، وذلك بدراسة كل الأفضية الموجودة على هامش المدن التي ظلت مهملة، ودراسة كذلك أنشطة الذين يسكنون فيها. وتلك الأفضية يعرفها الكاتب جيدًا بمراقبته لها طوال عقود في إفريقيا وأميركا اللاتينية وأوربا والشرق الأوسط. ومن خلال التركيز على الممارسات، والتصورات وتمثيلات الأفراد والجماعات التي تخلق تلك الأماكن، وانطلاقًا من مبدأ «المساواة بين جميع الأشكال الحضرية، فالمؤلف يضع جانبًا بعض التمثيلات التي تحيط بالأفضية «الهامشية» التي تكون غالبًا مرتبطة بالفراغ أو النقص أو العجز، ويكشف في الوقت نفسه ممارسته لعلم الأعراق ومفهومه عن الأنثروبولوجيا والتفسير وصياغة مفاهيم المدينة. فهذه هي الخطوة التجريبية التي يرمي هذا الكتاب إلى إيصالها من خلال هذه الصفحات، فقط من أجل فهم أفضل للعالم من حولنا، والمدن التي نعيش فيها، وتلك التي سنبتكرها مجددًا.
من أنثروبولوجيا المدينة إلى أنثروبولوجيا «الموضوعات في المدينة»
يضم الكتاب ثلاثة أجزاء. يحدد ميشال أجيي في الجزء الأول «مدينة علماء الأنثروبولوجيا» الإطار العملي والنظري لأنثروبولوجيا المدينة التي هي جزء من إرث ثلاثي: مدرسة شيكاغو في العشرينيات والثلاثينيات من القرن العشرين، وما يتعلق بالدراسات الاستقصائية التي أجراها علماء الأنثروبولوجيا بمدرسة مانشستر، ثم الأنثروبولوجيا الفرنسية الخاصة بالعوالم المعاصرة، التي ظهرت ابتداءً من ثمانينيات القرن الماضي، حيث برزت أبحاث مارك أوجيه مارك أوجيه. يعرض الكتاب ويناقش مقاربات كل مدرسة، ويوضح كيف أنها تُمكن من ملاحظة المدينة وفهمها من زوايا مختلفة، ويقترح الكاتب في النهاية تصنيفه الخاص الذي يسمِّيه «الأوضاع الأساسية للحياة الحضرية». في الجزء الثاني، «المدينة في أوج نشاطها»، يعود المؤلف إلى المشروع المتعلق بأبحاثه، ويهدف ذلك المشروع في لومي كما في سلفادور دو باهيا وتوماكو ولندن وكينيا، إلى فهم ديناميات التموقع localisation حسب آرجون أبادوراي Arjun Appadurai وهو يتحدث عن «الموقع» وهذا يتطلب تحليل «المدينة المعيشة» وذلك من خلال تجربة الساكنة الحضرية والمسارات اليومية وشبكات الأماكن والأشخاص الذين ينسجونها ومن خلال التبادلات الاجتماعية والرمزية التي تنشأ. لكن التجربة الحضرية تقوم أيضًا من خلال تدمير الأماكن والتشريد بشكل عنيف، وهو ما يجبر عالم الأنثروبولوجيا على النظر في عمليات التنقل وإعادة التوطين وحالات العبور من مكان إلى آخر.
لإظهار عمل الإثنولوجيا في المدينة وإنتاج المعرفة الأنثروبولوجية
يحاول الكاتب اقتراح دليل منهجي؛ حيث يقدم بعض أساسيات الحقل المعرفي كممارسة ومعرفة على حد السواء؛ وذلك باعتماده على الاستقصاء الإثنولوجي الذي يتميز قبل كل شيء ببُعده المايكرو - اجتماعي الذي يسمح بمراقبة ووصف المواقف الملموسة. ومن خلال عرض مفاهيم «المنطقة» و«الحالة» و«الشبكات»، وميادينها الخاصة، ولا سيما تلك التي أجريت في سلفادور دو باهيا (البرازيل) ولومي (توغو). ويشير المؤلف أيضًا إلى أن أحد تحديات عمل الأنثروبولوجي في المدينة هو الانتقال من وصف «العوالم الحضرية الصغيرة» التي يمكن ملاحظتها على مستوى الأفراد الحضريين، إلى إنتاج معرفة أكثر عمومية بالمدينة.
اللامدينة، المعسكر، مشروع المدينة والمدينة: التفكير في «الأنظمة الحضرية»
ويثير الكتاب التفكير في «أنظمة التحضر»، أي النهج الذي ينطوي على مراعاة الأشكال الحضرية المختلفة من حول العالم. ومن بين تلك الأشكال تحدث بالخصوص عن المعسكرات كشكل من «مشروع مدينة». وأنثروبولوجيا المدينة ليس لها حدود؛ ذلك أن «كل الميادين» والأماكن المتعددة أصبحت اليوم مجالات للملاحظة، حيث يمكن في آن واحد ملاحظة ذلك العنف المتعلق بالانفصال الحضري وعمليات بدايات تحويل المدينة. ومن خلال هذا الكتاب يحاول ميشال أجيي متابعة تلك المسارات.
من «الحق في المدينة» إلى «إقامة المدينة»
وتكمُن أهمية الكتاب أخيرًا في التفكير الذي يقترحه حول مسألة السياسة في البيئة الحضرية، وذلك بدراسة الحالات الطقوسية الحضرية (التمكن من استغلال الفضاء) ثقافيًّا (الكرنفال) أو سياسيًّا (مظاهرة في الشارع). إذا كانت اللحظة الطقوسية مهمة جدًّا لفهم قيام المدينة والعمل الحضري، فذلك لأنها، كما بيَّنتْه العديد من الأعمال، تسمح بتعليق الحياة اليومية، وبالخروج من الهويات المسندة، وبالاجتماع بين الأقران وأخذ الكلمة من أجل إقامة، بصورة مؤقتة، اللقاء الذي يمكن أن يخلق «عالمًا مشتركًا».
عالم أنثروبولوجيا ومدير الأبحاث في معهد الأبحاث من أجل التنمية في فرنسا
كاتب ومترجم مغربي