إنَّ أَغْلَبَ المُجتمعات، خصوصًا في دول العالم المُتقدّم، تقوم على أساس المَعرفة، وأنَّ هذه المَعارف تَتَجدّد بسُرعَة مُذهلة، وأنَّ الغَدَ هو مُلكٌ لأولئك الذي يستعدّون له ويعملون بكلّ جهدٍ وتفانٍ مِنْ أَجل ضمانه، ولا يوجد ضمان أكثر مِنَ العِلْمِ والتَّعليم، فَهُما جَواز السّفر إلى المُستقبل الزاهر والأمن الوافر.
التَّعْليمُ هو الطريقُ الأسرع لتطوير الذّاتِ وبناءِ الشخصيّة الإنسانيّة، والدَّليل نَحوَ تحقيق المُرتَكَزات الفكريّة والأخلاقيةّ، والمنهاجُ لبلوغ المَقامات النقديّة والاستكشافيّة، وأداة المواكَبَةِ والتكيّفِ مَعَ التغيّرات المُتسارعة في المَيادينِ الاقتصاديّة والسياسيّة والأمنيّة والاجتماعيّة.
لَقَد أَدرَكَت العديدُ مِنْ دوَلِ العالَمِ المُتقدّم محوريّة التَّعليمُ الرَّصين وحاجَتها إليه مِنْ أجلِ النّجاةِ في مُواجَهَةِ التحدّيات وَحَلِّ المُشكلات، فَبَدَأت بتأسيس المنظمّات والهيئات، ودَعَت إلى إعدادِ المُؤتمراتِ، وَكَثَّفَف الحِوارات والمشاورات، وأسّست جَلَسات دوريّة، ونقاشات جوهريّة تَتَعلّق بطُرق إصلاحِ النُظُم التَّعليميّة وتَطويرِ مَهارات الأفراد الفكريّة والسلوكيّة.
إنَّ التَّعليمَ لا يَنحصر بِشَريحةٍ مُحدّدة، في مَدارسِ النُّخبةِ والبرامجِ المُتَقدمة، بل هو لجميع الطلاب، ولجميع دول العالم، فالتَّعليم اليومَ أصبح للجميع، وأنّ الإعداد العلميّ والفكريّ أصبح واجبًا لمواجهة تحدّيات العصر الجديد، والثورة التكنولوجيّة، وعملية الانتقال من التقنيات الميكانيكية إلى الإلكترونيات الرقميّة، وما حَمَلَته مِن ارتدادات سياسيّة وأمنيّة واقتصاديّة، حيث تَوَسَّعَت المعارف بشكل مُذهل، وَتَضاعَفَت المَعلومات وَأَصَبح جمعها وإدارتها أيسر، فــــــ خمسة "إكسابايت" لشريحة ذاكرة المعلومات الجديدة، أصبحت تعادل حوالي 500 ألف ضعف حجم جميع مطبوعات مكتبة الكونغرس. لذلك ما عادَت نُظُم التَّعْليم المُتقدّم، والمَناهج والبَرامج، وَطُرق التّدريس الحديثة تعتمد على نَقلِ المَعارف إلى الطلاب باستخدام وَسيلَة الحفظ عَن ظَهر القَلب، بَل أصبَحَ واجبًا مُساعَدة الطُلّاب على تَعَلُّم أساليب التَّعَلّم، وَتَمكينَهم مِنَ الاستِفادَةِ مِنَ التّقَنيّات الحديثة الكفيلة بحفظ المعلومات في مواجهة التحديات وحلّ المَشاكل والمُعضلات، وَتَدريبهم على أسلوبِ وآليّة وَمَنهَجيّة التَّفكير النَقديَ، وإتقان محتوى المادَّة الدراسيّة، وهذه الأهداف تتطلب تعليمًا متقدّمًا ورصينًا، وأكثر تنوعًا من كونه مُجَرّد تَغْطيَةً واستكمالًا لمحتوى الكُتُب الدراسيّة.
مِنْ أجلِ ذلك باتَ لزامًا التأكيد على التَّعْليم، وعلى بناءِ مُؤَسساتٍ تَعليميَّةٍ رَصينة، تُعين على تَطويرِ الفِكْرِ الإنساني، وتثبّت أركان العدل والأزدهار المُجتَمَعي؛ وأنَّهُ طَوقُ النَّجاةِ للخَلاص مِنْ مَتاهاتِ الجَّهل؛ وهو السلَّم نحو مدارج التنوّر الفكريّ والثقافي وَعَقلَنَة السلوك الإنسانيّ؛ وهو الرّكيزة في البناء والإصلاح المجتمعي؛ التَّعليم لا يبلغُ أهدافه ما لم يُشيَّد العقل الإبداعيّ في الإنسان، وَيُنَمّي فيه ثِقَته بذاته، وَيُرَبّي فيه حِرصه في السير على مَنهَجٍ عِلميّ وسلوك أخلاقي، يأخذ بنظر الإعتبار مصلحة الأمة ويلبّي احتياجات الأفراد كافة.
كاتب وباحث وطبيب عراقي